اسطنبول – “القدس العربي”: ليس سهلا أن تفتتح كلاماً عن سوريا بدون المرور بمأساتها الهائلة، بدون أن تذكر الركام والغبار والحواضر التي تتداعى. الحرب الطاحنة بعثرت الناس في المعمورة، النار شّبت في التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا، والملايين لاذوا بأرواحهم، وبعضهم قضى على الحدود أو في البحار. إلا أن أحدهم يعود وحيداً بالماء ليطفئ اللهب ليخرج المخطوطات العتيقة من الجحيم. هو إبراهيم مسلماني، الباحث في الموسيقى السورية، والذي يقاتل ويبذل جهوداً كبيرة للعثور على التراث الموسيقي الضائع والمدفون، ولا يريد لصوت مدينته حلب أن يختفي تحت الركام.
إبراهيم شاب سوري عمره 26 عاماً دخل إلى عالم الموسيقى في سن مبكرة. كان طفلاً في عمر 12 عاماً عندما وصفه البعض بأنه ظاهرة في الإيقاع. اليوم يبذل جهوداً تحتاج لمؤسسات لأنه يشعر بأمانة ثقيلة ملقاة على عاتقه. يريد الوصول إلى الموشحات السورية القديمة وتسجيلها وأرشفتها كي لا تضيع.
وقد أسس فرقة نوا بعمر 17 عاماً، وكانت الفرقة تحتوي على 13 موسيقياً جميعهم أكبر منه سناً. أراد من خلال هذه الفرقة توثيق ونشر الموشحات الدينية والغزلية، التي لم تعرف أو توثق أو تُنشر سابقاً، ونشر فصول الذكر اليتيمة التي يكاد لا يتجاوز عدد الذين يعرفونها أصابع اليد، إضافة للابتعاد تماماً عن الموروث “السياحي” الرائج والمستهلك.
يقول إبراهيم لـ “القدس العربي”: “بدأت قصتي في الموسيقى مع أخي الأكبر، محمد مسلماني، ووالدي. السنة التي ولدت فيها اعتزل والدي الإنشاد. في أواخر التسعينيات بدأ أخي بتعلم الموشحات والإيقاع، وشرع في بالعمل مع المنشدين. آنذاك كنت في الصف السادس الابتدائي واتضح أني تعلمت الكثير من الأشياء بدون أن أقصد ذلك من خلال سماعي للموسيقى التي تدور حولي. أخي كان يسمع دائماً التسجيلات القديمة فكونت مخزوناً كبيراً منها في سن صغيرة. موسيقيون متميزون كبكري كردي، ومحمد النصار، ومصطفى ماهر، وعبد الوهاب دخلوا بأصواتهم وأنغامهم إلى اللاوعي لدي بدون أن أدري”.
ويضيف: “كانت تسجيلات المنشدين الصوفيين دائماً في بيتنا، منشدون قد لا ترى لهم مثيلاً في زماننا الحالي، تسجيلات تحمل شحنات كبيرة من الفن والأصالة، بعد ذلك قررت أن أتعلم الإيقاع، وبدأت بالعمل في الحفلات والأعراس وأنا في سن الثالثة عشرة. وتكونت لدي في تلك الفترة خبرة كبيرة في الإيقاع. كان الناس يقولون وأنا في تلك السن الصغيرة إن إبراهيم من أهم عازفي الإيقاع في حلب” مضيفاً: ” انبثقت لدي رغبة كبيرة في جمع كل إيقاعات الشيخ عمر البطش الذي يُعتبر المعلم الأكبر لجميع الأساتذة الحاليين في هذا المجال. وفي عام 2006 بدأت في مشروع جمع الإيقاعات التي بُنيت عليها الموسيقى التراثية السورية، ثم اكتشفت أن القضية ليست قضية إيقاعات وإنما الموشحات فأردت أن أجمع كل الموشحات الحلبية. أثناء جمع الموشحات أدركت أن المقامات هي الأهم، ثم أن القضية هي قضية ثقافة ومسألة تربية. هذه الإحالات فرضت تغييراً جذرياً على نمط حياتي وطريقة تفكيري، نجحت في الشهادة الإعدادية وقررت التفرغ لهذا المجال”.
يتحدث إبراهيم بأسف عن غياب المؤسسات والأكاديميات التي تعلم التراث الموسيقي الأصيل في سوريا، ويرى أنه لم تكن هناك مدارس أكاديمية في سوريا لتعليم الفن الذي يريد تعلمه: “لا يوجد علم موسيقي سوريا بحاجة له في الأكاديميات، فالموسيقى السورية لا يمكن تحصيلها في تلك الأماكن. هناك موسيقى غربية يتم تدريسها مقابل وجود صف شرقي. أي أن الأساس بنظري هو مجرد فرع، وهذه جريمة في حق الثقافة السورية، ويمكن اعتبار ذلك تغييباً لها. منذ بدايات الاحتلال الفرنسي، حيث تم تغريب حتى الأسماء الموسيقية. المسألة تشبه أن تطلب من شخص ما يتكلم العربية، أن يعبر عن نفسه بلغة أجنبية، وهو في منطقته وحيّه”.
إبراهيم دفعته رغبته الكبيرة في جمع الموشحات والإيقاعات إلى لقاء الأستاذ حسن البصال، وهو تلميذ عمر البطش، للتعلم منه، ليصبح بناء على ذلك أصغر ورثة أعمال عمر البطش في سوريا، حيث يبلغ الآن 26 عاماً، وبينه وبين أصغر ورثة البطش حوالي 40 عاماً من الفارق العمري.
عمر البطش كان من أهم ملحني الموشحات في سوريا وساعد في معرفة اسمه اهتمام رئيس الوزراء فخري البارودي به في أعوامه الأخيرة وفسح المجال له حتى يعلّم في الشام وحلب. فأنشأ جيلين في الشام وحلب وقام الطلاب بنشر موشحاته، وأصبح ذا شأن. في الأساس كان ثمة قلة في تقدير البطش، يقول إبراهيم، وما ساعده على الظهور للواجهة “هو الاهتمام الرسمي به آنذلك، بعد أعوام طويلة قضاها في الظل”.
هناك العشرات من طلاب عمر البطش في الشام وحلب، وكل هؤلاء لم يستطيعوا حتى الآن جمع موشحاته في مرجع واحد. كان هناك حالة من البخل لدى تلاميذ البطش في نشر الموشحات التي تعلموها وذلك لأسباب عديدة “أهمها رغبة بعضهم في تحصيل التقدير من خلال إخفاء هذه الموشحات وعدم جعلها مشاعاً للعامة، إضافة لانتشار الشللية والحساسية بين تلاميذ عمر البطش ذاتهم” حسب إبراهيم.
مدينة حلب شهدت عملية تدميرية هائلة وموجات تهجير جماعية، جزء مخيف من التراث العمراني والثقافي المادي تأثر في السنين الدامية الأخيرة إلا أن مسلماني يرى أن التراث الموسيقي على وجه الخصوص، تم فقدان معظمه قبل ذلك “لأن الناس كانوا مطمئنين لوجود الأساتذة بين أيديهم، ولم يبذلوا جهوداً في توثيق التراث الذي لم يكن ثمة تهديد يطاله”.
إضافة إلى ذلك ما فعله معظم العاملين في ميدان الفن، كصباح فخري، وصبري مدلل، وأديب الدايخ، هو “إعادة إشهار ما كان مشهوراً أصلاً من التراث”، وفق مسلماني. أي أن جهوداً حثيثة لم تُبذل بشكل جدي لكشف النقاب عن التراث المدفون في المخطوطات والمدونات وعرضه للعامة. أغان وموشحات معدودة يتم تكرارها ذاتها على المسامع في الحفلات والأعراس والمناسبات الأخرى. الكنز الهائل في صندوق مقفل ويتم تسريب شذرات صغيرة منه للسميعة. ما أريد فعله هو إتاحة المجال للعيون والمسامع في الوصول إلى هذا الكنز الكبير، ووضع الإرث بين يدي أهله، هذا الكنز الذي يتعاون على إخفائه الإهمال والحرص والمصالح الشخصية وقلة الإدراك لمخاطر ضياعه.
هناك آلاف الإيقاعات والألحان والموشحات والقصائد في حلب وسواها من المدن السورية. يرى إبراهيم أن التراث السوري غزير وغني. وما يصل إلى مسامعنا منه قليل جداً. ويسعى لكشف النقاب عما لا نعرفه عن أنفسنا. عن أصوات أجدادنا المدفونة في الرمل. ولكنه يحرص حرصاً شديداً على أن يفعل ذلك بأيد نظيفة لا تتسخ بالمال السياسي. ويريد أن يهدم في عمله الجدران بين السوريين، والتي وضعتها الدول والخرائط الممزقة. يريد أن يقدم هذا التراث لجميع السوريين بصفتهم ورثة شرعيين له. ويشير إلى أن ذلك يحتاج لدعم مؤسسات غير موجهة سياسياً. إبراهيم شاب سوري يقاتل في ميدان لا يكترث له كثيرون. يريد لأغانينا التي كُتبت في الأماسي وحالات الوجد، للألحان الغزلية التي دارت على الأسطح المقمرة، والمناجاة الجماعية لأجدادنا في جوف الليل، أن لا تلفظ أنفاسها الاخيرة بسبب الإهمال والتقاعس.