في أسطوانتها الأولى التي صدرت أخيراً في واشنطن، تقدّم فرقة “نَوا” الحلبية “ابتهالات صوفية قديمة، وأغانٍ منسية من حلب“، توحي لدى سماعها بالحِرَفية والذائقة الفنية العالية في الأداء.

هي أعمال موسيقية قديمة، فيها من الشعر والمقامات والإيقاعات ما ندر تلحينه ووزنه، ومنها ما هو مجهول الملحّن والشاعر، مثل موشح “ظبي وادي النقى”، وهو من مقام الركب وإيقاع نقش الأربعين، وموشح “حبّذا الدوكاه يحلو”، من مقام الدوكاه وإيقاع الشنبر الحلبي، وفصول ذكر، مثل “الجلال”، و”الصاوي”.

مشروع الفرقة، منذ تأسيسها عام 2009، هو العمل على إحياء الذاكرة الموسيقية الحلبية، وجمع مخطوطات ومدونات وتسجيلات قديمة لموشحات وقدود وفصول، وتقديمها بعد دراسة النسخ المتعددة، المتوارثة منها، والتي أُخذت بالتواتر الشفهي عن موسيقيين ووشّاحين قدامى، مثل عمر البطش وصالح الجذبة وعلي الدرويش.

أعمال كهذه لم تحظَ من قبل بفرصة التدوين والتسجيل لأسباب كثيرة، منها الإهمال وضعف الإمكانيات التقنية آنذاك، وخصوصاً إصرار مَن يملكها على عدم نشرها وتدوينها، إذ طالما كانت حكراً على الشيوخ والأساتذة من روّاد هذا الفن، وعلى أتباع ومريدي الزوايا الصوفية.

من هنا كان اجتهاد مؤسس الفرقة، إبراهيم مسلماني، في البحث عن أعمال كهذه، وجمعها ودراستها. يقول الفنان الشاب (1992)، في حديثه إلى “العربي الجديد”: “أخذتُ علم الموشحات بالتواتر الشفهي عن العديد من الأساتذة، أهمهم الأستاذ حسن بصال (1926 ـ 2009)، الذي بدوره أخذها عن الشيخ عمر البطش (1885 – 1950)، وتعلّمتُ منه نقل السماح. لكن أهم ما أخذتُ عنه كان سلسلة غنائية مكونة من اثنتي عشرة نغمة، اسمها “ناطق الحجاز”، وبذلك أصبحتُ آخر مَن يحفظها، وحملتُ مسؤولية نشرها وحفظها من الضياع “.

“نوا”، كما ظهرت في فيلم “وجد” (للمخرج السوري الكندي عمار شبيب)، تهتم بإظهار العنصر الموسيقي في العمل، فضلاً عمّا فيه من مسرحة، وتختار الألحانَ حسب جمالها الفني وقيمتها التاريخية معاً، لا لمجرد قِدَمها. وبخلاف النمط المستهلك لفرق التراث الموسيقي، تحمل طابعاً موسيقياً أكثر ممّا هو ديني. فصل “الجلال”، مثلاً، أدّت الفرقة عرضاً منه في حفل “مساحات شرقية” (دمشق، 2011)، عبر كورال من عشرة “ذاكرين”، يتوسطهم منشد متفرّد، يقدمون فصولاً صوفية الأصل، هي حركات وألفاظ مضبوطة لحنياً وإيقاعياً، تحكمها علاقة منتظمة بين المنشدين والذاكرين.

سجّلت الفرقة عملها الأخير، بالتعاون مع مؤسسة Lost Origin Sound، على أسطوانة فونوغرافية، دلالةً على أصالة الصنعة، وقسّمت أعمالها إلى مجموعتين، واحدة للموشحات والقدود (غناء وآلات موسيقية)، والأخرى لفصول الذكر والابتهالات (إنشاد جماعي ومنفرد، من دون آلات موسيقية)، باعتبار كل منهما نوعاً قائماً بذاته.

ولا يخفى على المستمع الغناء السليم للمقامات، استناداً إلى معايير علمية موسيقية، والابتعاد عن العلامات المعدّلة التي تُفقد النغم رنينه وجماليته، وتأدية أصول إيقاعية قديمة لم تعد متداولة حديثاً، مثل “الأوفر المصري” و”جفته حلبي” و”الطرّة”.

محاولات طفيفة تلك التي أجريت سابقاً لتسجيل وأرشفة هذه المقطوعات متقنة الصنع، ولم تنجح لأسباب تحتاج أبحاثاً مطوّلة. بعض ما سُجّل منها جرى بيعه في مزادات علنية، وظل في حوزة أشخاص أو مؤسسات حكومية لم تشأ هي الأخرى أن تفرج عنها، أو باتت منسية على الرفوف، كما في أرشيف إذاعة دمشق، وأرشيف إذاعة حلب.

هنا تكمن أهمية مشاركة فرقة “نوا” في إحياء هذه الأعمال التي تعدّ الوجه الحقيقي للثقافة الموسيقية في حلب، ونوعاً مختلفاً عن الذي تقدّمه أيقونات الغناء الشعبي.

رابط المقال