قد يكون سابقاً لأبناء جيله، فعندما تستمع لكلامه في الموسيقا ورؤاه الفنية يخيّل إليك أنه رجل بلغ من العمر عِتيّا، وعندما تسأله يقول لك عمري تسعة عشر عاماً، إنه الفنان “إبراهيم مسلماني”.

موقع eSyria التقاه للوقوف على تجربته الفتية والكبيرة بنفس الوقت فحدّثنا قائلاً عن بداياته: «نشأت في عائلةٍ حلبيّة مهتمّة بشكل كبير بالإنشاد الديني فوالدي كان منشداً ووالدتي أيضاً كانت منشدة في المجالس الصوفية الخاصة بالنساء، فتربّيت بذلك على سماع تسجيلات الإنشاد القديمة والمجالس الصوفية، وكان أخي الأكبر “محمد” قد سبقني فتعلم ضرب الإيقاع على آلة “الدف” وبدأ بالعمل في مجالس الإنشاد والذِكر وقد كان لي المرشد والمعلم الأول فهو من علّمني الإيقاعات والعزف على المزهر واطلعت من خلاله على الإيقاعات العربية القديمة وطريقة العمل بها».

وعن المرحلة التي تلت مرحلة التعلم والاكتساب وكيف دخل الحياة العملية يتابع قائلاً: «في العام /2002/ بدأت أدرك الإيقاعات وأميز فيما بينها وبدأت العمل في موالد الذِكر الصوفي وفي زوايا الإنشاد الديني التي كان أبرزها الزاوية الهلالية العريقة والمشهورة في “حلب”، وكان ختام عملي في فرقة المنشد “حسن حفار” الذي سافرت معه إلى فرنسا، لكن تعلقي الشديد أحجم طموحي عن التوقف هنا وقد لمعت في ذهني جذوة البحث الموسيقي بكافة جوانبه الإيقاعي والصوفي والكلاسيكي، وبدأت رحلة طويلة من البحث عن الكتب والمخطوطات والمنشدين والباحثين القدامى».

وتنفيذاً لهذه الفكرة عكف “إبراهيم” على ملاحقة من تبقى من شيوخ المنشدين، ومن توفاه الله منهم تراه يبحث عن ورثته طالباً أية وثيقة أو نوتة موسيقية قديمة تروي ظمأه وتفيده في مشوار بحثه، وقد صادف في طريقه متاعب جمّة وقابل أناساً كان يظن أنهم رحلوا عن الدنيا، ومجيباً على سؤالنا حول من التقاهم واستفاد منهم يقول: «هناك فكرة سائدة لدى معظم القدامى من الفنانين والمنشدين الصوفيين تتلخص في أن ما يكتنزونه من علم محرَّم على غيرهم من أبناء هذا الجيل بحجة أن من يهتم بتلك الأمور اليوم هدفه الذهاب بتلك المعلومات إلى حضيض الإسفاف واستعمالها في غير مكانها، ويفضلون على ذلك أن تموت علومهم معهم. كانت تلك الفكرة المتأصلة بمثابة صفعة أتلقّاها ممن يحملون هذه القناعة، هذا بالشكل العام. أما تفاصيل خطواتي فبدأت في المراكز الثقافية ودار الكتب الوطنية والمكتبات الموسيقية الخاصة وحديثاً على مواقع الإنترنت. لكن ما وجدته ليس إلا غيض من فيض. فهنالك أمور وعلوم

لم يسبق للإعلام أن سلط عليها الضوء وهناك أشخاص كثر يعيشون في الظل ويموتون دون أن يعرفهم إلا قلائل الناس، فوجهت بوصلتي تجاههم وبدأت ألتقي بهم فكان أولهم الأستاذ “علي بحري” في العام /2006/ وهو مؤلف وملحن موشحات على الطراز القديم اطلعت لديه على بعض المخطوطات القديمة وأعطاني كماً جيداً من المعلومات يشكر عليه، ثم ذهبت للأستاذ “فاتح أبو زيد” وهو عالم بالتراث الديني ومعلم أخي “محمد” في الزاوية الهلالية وكان متعاوناً إلى حد كبير. وهنا كنت في الصف العاشر ونتيجة تعلقي الشديد وانشغالي بهذا الموضوع تركت الدراسة وتحوّلت لهاجسٍ أصبح يرافق أحلامي».

لم يتوقف هذا التعلق عند الأذكار الصوفية ولم يرتوِ بالموشحات القديمة بل تعدى ذلك إلى “رقص السماح” وهو الجانب الذي بدأ يضمحل ويغير مساره مع أيامنا هذه، وكان كل هذا البحث مترافقاً مع بعضه لكنه منظم وموثق بشكل لافت. وعن بحثه عمن يعلمه رقص السماح يقول “إبراهيم”: «كان باب الأستاذ “حمزة بابللي” هو أول الأبواب التي طرقتها وأغلقت في وجهي وهو تقريباً الوحيد الباقي ممن يمارسون العمل الفعلي في هذا المجال ولديه فرقة لرقص السماح. لكني كنت عنيداً في طلبي ووصلت إلى معلم “حمزة بابللي” وهو الأستاذ “فاخر نيال” الذي رحب بي وعلمني مجاناً. ثم في العام /2007/ جمعني القدر مع الكبير “حسن بصال” وهو معلم قديم لرقص السماح الخاص بالرجال وتفاجأت عندما علمت أن كثيراً من الحركات التي يتم أداؤها اليوم في رقص السماح هي خاصة بالنساء ويؤديها الرجال، أما الحركات الصحيحة فقد علمني إياها الأستاذ “حسن”، وقبل أن يتوفاه الله أعطاني “ناطق الحجاز” وهو سلسلة مقامية مؤلفة من اثني عشر مقاماً على أبيات شعرية موزونة وملحنة على كل مقام، ويعود عمر هذا الناطق إلى أكثر من مئتي عام وكانت حيازته هاجس الكثيرين ممن يهتمون بالفن لكنه كان معرضاً عن إعطائه لأي كان. كما أنه هو من علمني قراءة النوتة الموسيقية وزودني بالكثير من الصور القديمة الخاصة به وأنا أعتبر نفسي قد دخلت السلسلة الموسيقية السورية بتسميتي تلميذاً عند “حسن بصال” الذي هو تلميذ “عمر البطش”».

وحول مشاركاته ونشاطاته على أرض الواقع يقول “إبراهيم”: «كانت أولى الأفكار التي راودتني بعدما تعرفت على الأستاذ “طارق السيد يحيى” هي إنشاء فرقة صغيرة تغني -ولو على نطاق محلي- ألحان الموسيقيين القدامى غير المعروفة، فأسست فرقة “نوا” وبدأنا العمل بخطوات بسيطة حتى أن جلسات التدريب كانت تتم في منزلي، إلى أن سمع الدكتور “فواز باقر” عملنا وأبدى إعجابه به وعرض علينا التعاون الذي أثمر فيما بعد أن انطلقت الفرقة من المحلية إلى ما يقارب العالمية وأصبح التوجه أكثر تحديداً والعمل أكثر تقنية وحرفية، وقد تم تقسيم عمل الفرقة إلى نمطين يعنى الأول بما أسلفت ذكره عن غناء الألحان القديمة الآيلة إلى الاندثار، والثاني بإعادة غناء فصول الذكر المتوارثة في “حلب” ونقلها بأمانة عالية من مصادرها الأصلية أو من أقرب نقطة عنها. أما المشاركة الثانية فكانت مع فرقة “دوبامين” مع الدكتور “فواز باقر” والأستاذ “باسل حريري” وعدد من الموسيقيين ومضمون عمل الفرقة محاولة المقاربة بين الموسيقا العربية وموسيقا الجاز وبما أني عازف إيقاع فقد استعضت عن آلة “الدرامز” بالدف القديم الذي أضرب عليه الإيقاع بالفراشي ومكانس القش وهي طريقة ليس جديدة بل قديمة جداً لكنها تعطي أصواتاً طبيعية أعتبرها أقرب إلى التعبير الحي عن الحس الإيقاعي الإنساني. وقد أنتج دخولي إلى مجال العمل في هذه الفرق الموسيقية بعد اقتصاري على العمل في الموالد وحلقات الذكر عن ورشات عمل عدة كان أبرزها مع عازف العود الألماني “رومان بوكا” وقد توِّجت بحفلة قدمت في مدرسة الشيباني في “حلب” إضافة لورشات عمل مع طلاب المعهد الموسيقي في مدينة “كاليه” الفرنسية وتوجت بحفل أيضاً بحضور السفير الفرنسي في سوريا. كما شاركت مع الأستاذ “طارق السيد يحيى” ضمن ثلاثي “أوديتو” من برلين ضمن السورية الألمانية ولنفس المناسبة قدمنا حفلة في مدينة “غازي عنتاب” التركية، كما كانت لي مشاركة في الموسيقا التصويرية ضمن مهرجان “ذاكرة النيلة” الذي أقام في “حلب” العام الفائت. وله أيضاً مشاركة في فلم “وجد” للمخرج السوري الكندي “عمار شبيب” وهو فلم يتحدث عن أوضاع الموسيقا والإنشاد وقد تم تصويره لصالح مجلس رعاية الفنون في كندا».

ويلخص “إبراهيم” طموحاته ورؤيته المستقبلية في توثيق التراث الحلبي وتشكيل فرقة رقص سماح مؤلفة من رجال يغنون ويرقصون في آن معاً وتأليف كتاب ضخم عن الإيقاعات العربية. وما يستحق الذكر أن “إبراهيم” يعزف فقط على الدف الذي يستخدم في موالد الذكر وقد صنع بنفسه دفاً لا يحتاج للتعرض للحرارة كي يعزف عليه واستعاض عن ذلك بنفخه من جوانبه وتعبئته بالهواء وهي فكرة ألمانية لكنه صنعها بنفسه هنا دون الاطلاع ميدانياً على التجربة. ويقول أنه لازال مبتدئاً في ضرب الإيقاع وهو يتراسل مع عدة عازفين عرب وأجانب ويعمل على تطوير خبراته وإغنائها.

وتجدر الإشارة إلى أن “إبراهيم مسلماني” من مواليد حلب عام/1992/ وهو أخ لأربعة شباب هم “محمد”، “عبد الرحمن”، “بدر الدين”، “أنس”. ويدين بالشكر للدكتور” فواز باقر” لأنه من أخذ بيد تجاربه إلى أوروبا.

رابط المقال